قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ وقال تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ))[ق:35]، قال: الطبري: قال علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عز وجل.
وقال تعالى: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ))[يونس:26] فالحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجهه الكريم، فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: {قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) [يونس:26 ] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة} ورواه غيره بأسانيد متعددة وألفاظ أخر، معناها أن الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل.
وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم، روى ابن جرير عن جماعة، منهم: أبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس رضي الله عنهم.
وقال تعالى: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ))[المطففين:15] احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي، وقال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قوله تعالى: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ))[المطففين:15] ؟ فقال الشافعي: لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا] إهـ.
الشرح:
هنا دليلان:
الدليل الأول: الزيادة.
والدليل الثاني: حجب الكفار عن الله تبارك وتعالى مما يدل على رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا.
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنس بن مالك، وأبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس -وهؤلاء أعلم الصحابة بالتفسير وبغيره من العلوم- كل هؤلاء فسروا المزيد بأنها رؤية الله تبارك وتعالى قال تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) [قّ:35]، وقال سبحانه: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)).
فإذا كانت الحسنى هي الجنة، وإذا كان لأهل الجنة ما يشاؤون من النعيم -كما هو متفق عليه بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة وغيرهم- وفيها ما يشاء الإنسان مما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين من أصناف النعيم وأنواع الملذات، وهي الحسنى التي وعد الله تبارك وتعالى بها عباده الصالحين، فما هي الزيادة على الجنة؟ والجنة نعيمها لا ينفذ ولا ينقطع وإنما هو متجدد دائم متصل.
فَسَّرَ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث الصحيح الذي رواه صهيب رضي الله تعالى عنه قال: {قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) وقال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟} لأنهم يرون أنهم قد زحزحوا عن النار
((فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)) [آل عمران:185] .
فالفوز الذي كانوا دائماً يحلمون به والأمنية العظمى التي كانت تراود أنفسهم وقلوبهم قد تحققت، فما أن اجتازوا وعبروا الصراط وأنجاهم الله تبارك وتعالى من الكلاليب التي مثل شوك السعدان والتي تخطف الناس وتهوى بهم إلى النار، فلما جاوزوا ذلك إلى الجنة، وجدوا فيها مالا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فعند ذلك تعجبوا، وماذا بقي بعد هذه الجنة ؟! وماذا بقي من موعد وعدنا الله تبارك وتعالى به ولم يحققه لنا تبارك وتعالى؟!
{فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟} يعمل المؤمن الحسنة فيجعلها الله تبارك وتعالى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، ويفعل الفعل من أفعال الخير ويأتي يوم القيامة وإذا به مثل الجبال ويجعله الله تعالى في الميزان عظيماً ثقيلاً وهو من فضله تبارك وتعالى.
{ألم يبيض وجوهنا؟} يوم تبيض وجوه أهل الإيمان والسنة وتسود وجوه أهل الكفر والنفاق والبدعة هكذا يسألون ربهم عز وجل.
{فيكشف الله سبحانه وتعالى الحجاب عن وجهه الكريم فينظرون إليه } ثم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:
{فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه } كل ذلك النعيم الذي رأوه من الحور العين ومن الولدان ومن النعيم الذي لا ينقطع، والأنهار التي من العسل واللبن ومن ماء غير آسن ومن الخمر وكل ما في الجنة من نعيم ولذة وبهجة، كل ذلك لا يساوي لذة النظر إلى وجه الله الكريم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يمتعون بذلك إنه سميع مجيب.
قال: {فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم} وقرة عين المؤمنين في الدنيا هي في معرفة ربهم سبحانه وتعالى من صفاته ونعوت جلاله، واتباع دينه وعبادته، ومناجاته والتضرع إليه والعمل لوجهه الكريم، هذه قرة أعينهم في الدنيا، وقرة أعينهم يوم القيامة بالنظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى، وهذه أعظم نعمة. والإنسان في هذه الحياة الدنيا ينعم ويرتاح ويسعد بقدر ما يكون إيمانه ومناجاته لله سبحانه وتعالى، وقوة صلته بالله جل شأنه، وقوة يقينه بالله ومعرفته لنعوت جلاله وصفات كماله سبحانه وتعالى، فهذه غاية السعادة وغاية الطمأنينة والراحة في هذه الحياة الدنيا.
يقول الإمام ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله تعالى أجمعين: (إني لأكون في حال، أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحال إنهم لفي نعيم)، ما هي هذه الحال ؟ إنها حال تلذذ القلب بذكر الله سبحانه وتعالى والأنس به، ومناجاته والتضرع إليه سبحانه وتعالى، وقرة عينه في الآخرة التي هي قرة العين العظمى والغاية الكبرى ليست في نعيم الجنة: من الحور والولدان والمتاع والفاكهة واللحم، وإنما تكون قرة العين العظمى والكبرى والنعيم الأعظم واللذة التي لا يعدلها لذة، هي رؤية الله سبحانه وتعالى، فهو الذي تقر به العين ورؤيته تعدل جميع أصناف وجميع أنواع النعيم الذي أعده الله سبحانه وتعالى لهم في الجنة.
فذكر بعد ذلك المصنف رحمه الله أن هذه الزيادة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها النظر إلى وجهه الكريم، وهذه الطريق جاءت مرفوعة صحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي نفس الوقت جاءت عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كما روى ذلك الإمام
ابن جرير الطبري عن
أبي بكر و
حذيفة و
أبي موسى و
ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين، بالإضافة إلى أن
علي بن أبي طالب و
أنس بن مالك فسروا قول الله تعالى
((وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) بأنها رؤية الله سبحانه وتعالى. فالآية من كتاب الله واضحة جلية، فلم يبق بعد ذلك مجال لمؤول ولا لمنكر وهذا الدليل الثاني.
والدليل الثالث على رؤية الله تبارك وتعالى هي قوله جل شأنه في حق الكفار: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)) [المطففين:15] وهذه الآية احتج الشافعي رحمه الله بها على الرؤية كما ذكر ذلك المصنف فقال الشافعي: (لما حجب هؤلاء بالسخط -أي: عن رؤيته- كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا) فمقتضى رضاه أن يراه أولياؤه وأحباؤه المؤمنون كما كان من مقتضى سخطه وغضبه على الكافرين أن يمنعهم عن رؤية وجهه الكريم.
((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[القلم:35-36] هل المسلمون والمجرمون سواء في الحجب عن رؤية الله سبحانه وتعالى؟
وفي كلام الشافعي والإمام مالك: دليل وتصريح بأن المؤمنين يرون ربهم جل وعلا يوم القيامة، وهذا من الأدلة التي تبطل دعاوى المؤولين والمحرفين. ثم ذكر المصنف مناقشة المعتزلة وما استدل به المعتزلة والجهمية المنكرون لرؤية، وكما قلنا: لا بد لهم من تأويلات ولا بد لهم من شبهات.
فمن ذلك أنهم استدلوا بقوله سبحانه وتعالى: ((قَالَ لَنْ تَرَانِي))وبقوله: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ))[الأنعام: 103] وقد أطال المصنف -رحمه الله تعالى- هنا في إبطال استدلالهم بآية الأعراف وهي قوله تعالى: ((لَنْ تَرَانِي)) .